كانت الساعة الحائطية لمبنى البلدية تشير إلى الساعة العاشرة و خمس دقائق.
أغلقت كل المحلات التجارية, و لم يبق في ساحة "الجمهورية" إلا بائع سجائر متجوّل ينتصب كل ليلة في الرّكن المؤدي إلى شارع المحطة .
توقّف أمام البائع و اشترى علبة كبريت. أومضت فوق رأسه لافتة لامعة كانت تشتغل بصفة متقطّعة , تارة حمراء وتارة أخرى صفراء , فتصبغ وجهه من الحمرة إلى الصفرة.
زأمه البرد و دوّخ الألم رأسه . تقدّم نحو وسط الساحة حتى وصل قرب ثلاثة رجال كانوا يتبوّلون.
ابتعد منهم في خوف واضح . استدار أحدهم وأقذع القول في اتّجاهه :
...أمك ... أنتم سبب غلاء المعيشة...يا نزوح ....
تذكّر أياما كان السّكر يفضي به إلى السّجن لعربدته في الطّريق العام أو لسبّه بعض المارّة أو أعوان الشّرطة.
رفع رقبة معطفه حتى أذنيه و مرّ بين سيّارتين رابضتين, تعلّق أحد الأكياس التي كان يحملها برادّة إحدى السّيارات و تمزّق. تبعثرت على الأسفلت بعض الأسمال , قارورة ماء, ظرف كرتونيّ سميك
و قطعة من الصّابون.
سحابة ملبّدة من الضّباب الكثيف غطّت الشّارع الطويل الملتوي أحيانا و المنعرج ألى أنهج فرعيّة ضيّقة.
المكان شبه مقفر .لا يسمع فيه إلا شجار القطط فوق حاويات القمامة.
تدرّج على الرّصيف حتّى حاذى مغازة لبيع الأثاث , كانت واجهتها مضاءة .و ككلّ ليلة تقدّم منه شبح
أنسانيّ متوسّط القامة, أشعث الشّعر, كان يبدو مرهقا. و ككلّ ليلة ضغط على يده ثمّ احتضنه. انفكّ من
عناقه و واصل طريقه. مزّق سكون الليل الموحش عواء كلاب.
أربعة سنوات, التهم فيها آلاف الكيلومترات, بلا كلل و لا ملل, لم يعد يعرف للوقت رائحة أو معنى الا في آخر الليل أو مع الشّريط الأوّل للفجر. أصبح الوقت لا يهم لأنه لعبة سكّان المدينة, لعبة عديمة الجدوى. يأتي و يذهب كالضلّ, يتوقّف عند أبواب المتاجر, يعبر الزّحام, يلفّ الميادين, يتفرّس ملامح
المارّة, تكلّ قدماه, و لا أثر لوجه يعرفه أو صديق يحيّيه.
انعطف نحو شارع ضيّق و أخذ يحملق في أبواب المنازل. ثمّة جدار أجرب تتخلّله حفر سدّت بقطع من
القصدير. قابلته قنطرة المحطّة الحديديّة. حثّ خطاه حتّى وصل أعلاها. توقّف ليتنفّس, نفخ في أصابعه
المتجمّدة, مرّر يده على شعر وجهه الخشن, تلف إلى أعلى و تمهّل فوق حاجبيه ثمّ انفرجت أصابعه الرّقيقة و ضغطت على مقدّمة الرّأس بشدّة. ظلّ ينصت إلى إيقاع أفكاره و هي تذرع رأسه في سرعة
هائلة و فوضى. هناك صور لم يمرّر عليها الزّمان يد النسيان...عينا " عائدة " ... حافلة السابعة صباحا
المكتظة...المنطقة الصّناعيّة ساعات الليل في يوم ممطر...عواء غلام في أخر الصفّ...أربعين مضرب
أتوا بهم ليلا لثكنة " القرجاني " ... مغلول ينفث الدّم خيوطا من فمه...يد موشومة بنجمة و هلال بين
خنجرين.
بدأ النّزول نحو رصيف المحطّة, أجرس طير في البعيد. رأى قطارا يخرج من المحطّة هادرا في سكون الليل نافخا دخانه الأبيض نحو القنطرة. أحسّ بوخز في إبهام رجله اليمنى المنتفخة. في مدخل المحطّة قابلته لوحة اشهاريّة لأحد البنوك شاهرة شعارا يتغنّى بالفرح الدّائم ...صورة عائلة تجري وسط الحقول.
امرأة و رجل...بنت و ولد...تذكّر صور الكتب المدرسيّة. عاوده ألم رجله اليمنى و كاد أن يسقط.
استعان بالقضيب الحديديّ المجانب للسلّم و واصل سيره. مرّت بخاطره, للحظة وجيزة, غرفة واسعة مفروشة بالبسط الحمراء الوثيرة و على جوانبها حشايا صغيرة صفراء.
مشى بعض الخطوات فوق الرّصيف.لاحت له بعض الأشباح هنا و هناك.ساعة المحطّة تشير للحادية
إلا الرّبع.كلّ المقاعد مبتلّة. جلّ منتظري القطار وجوههم بيضاء.المكان فضاء واسع. ضوء واهن يتسرّب من فجوات بين السّحب لقمر صغير, ينعكس عليلا على أسطح برك المياه الرّاكدة فوق الاسفلت غيرالمستوي . مشى إلى أخر الرّصيف ثمّ عاد أدراجه. عاملان ببدلات عملهم وأحمال همومهم اليوميّة. شابّان بصدد الاستماع لموسيقى منبعثة من هاتف جوّال. طفل في الخامسة من عمره داهمه النّوم لم يعد يتحمّل الانتظار. عاد يقلّب الساعة. رجع في اتّجاه سلّم المحطّة . توقّف , سعل ثمّ رجع يذرع المسافة الفاصلة بين السّاعة وأخر الرّصيف في حركة متوتّرة .
كان يتمنّى أن يستسلم للنّوم للحظة , لساعة, ليوم.
سمع هديرا ولاح له في الأفق المظلم ضوء بدأ يقترب رويدا رويدا . مرت القاطرة من أمامه حتّى وصلت أخر المحطّة . هرول المسافرون نحو العربات و صعدوا . تثاقل القطار, نفث أدخنته و غاب في العتمة .
توجّه هو صوب قاعة الانتظار...أرخى أكياسه على المسطبة الإسمنتية و استسلم للنوم.
سالم بن يحيى
فيفري2007
يبدو انك تحبّذ النهايات المفاجئة
اسلوبك مشوق
تحيّاتي
ciao
j'ai plaisir a vous lire chaque fois
bonne continuation.
sbeh elkhir si selem
sympathique cette histoire
tu as le bonjour de tout le monde
cio et à bientot
ELLE ME PLAIT CETTE HISTOIR BON COURAGE
كل مواضيع اقصوصاتك من الأدب الذي يمكن ان نصنفه ادبا واقعيا.يبدو لي و كانك متاثر الى حد بعيد بهذه المدرسة الأدبية.كل شخوصك اما "فزاعات" تستهزئ منها او شخصيات ممحوقة.
ما تكتبه تجديد في القصة التونسية
مساء الخير
انت يا عمي فين لاقيها قفلاتك ديه,الله
بالله عليك كتبت سيناريو من قبل
هذه القصّة الرّابعة التي أقرأها من انتاجاتك . كلها لمسات خفيفة في الوصف.
@زغلول
انت غير مخطئ كاتبنا هذا سينيمائي ينتج الأشرطة الوثائقية و قد سبق ان شاهدت احد افلامه و كان موضوعه النساء العاملات في الصناعة
اليس ذلك صحيح يا قصة اون لاين
@طالبة
صحيح أنا متأثّر كثيرا بالمدرسة الواقعية
@مراد و زغلول
كتبت و أكتب السيناريو. أنتجت عديد الأشرطة الوثائقية
je trouve le style lourd et monotone sans élégance, je ne sais pas où les autres voient la beauté dans ce que vous avez écrit
slouma
malgré ce qu'a dit l'anonyme
moi j'ai apprécié l'histoire et ce n'est pas pour te jeter des fleurs
elle se lit facilement
en meme temps on sent le coté très scénario dedans.
j'espere ue tu te rappelles de moi
maya
je t'ecris de sidney.
biz
حتى اخر القصة ضننت انه سيمتطي القطار معهم.
النهاية فاجاتني
أسلوب جميل وجديد في الكتابة، أنا عرفتو السيّد آس-دي-آف من أوّل الحكاية، ، المرّة هاذي فقت بيك
:)
Achbik toussesmed a benwaldi emlana m'sala ari icht idhen; eghghek mata wan ezznin aya ettef imanik. Atafed el khir a youma.
ahla bik