الاستدعاء
لم يلتفت إلينا الحارسان لشدّة اهتمامهما بالسحب الدكناء التي بدأت تلبّد السّماء. قال فارع القامة أن ما برمجه ليوم الأحد أصبح من قبيل المستحيل. أجابه زميله صاحب الحاجبين الغليظين :
_ قالوا صباح اليوم في النشرة الجوّية... أنّ السحب ستنقشع..
_ هه...لا أظنّ ذلك...هذا النوع من السحب عندما يأتي...يحتلّ السّماء لعدّة أيّام...
السّاعة تشير إلى العاشرة. بدأ المطر ينزل خفيفا و بدون انقطاع.
كتب على استدعائي أنّ الأبواب تغلق على السّاعة الثامنة و الربع بالضبط. أسعفني الحظّ عند وصولي في تمام الثامنة و سبع عشرة دقيقة أن قبل منّي فارع القامة ورقة نقديّة من فئة العشرين و فتح لي الباب ثم حشرني في آخر الطّابور. نظر إلي بازدراء قائلا :
_ احمد ربّك أنّ شخصا مثلي ما زال موجودا... أنت لا تعلم ماذا كان ينتظرك لو لم تتمكّن من الدخول إلى مركز واد الملح.
نسي أنّي أصبحت محترفا في فنّ الطوابير. لكنّني مع ذلك أتساءل دائما كيف يفعل, الآخرون, أولائك الذين يحتلّون مثلي المواقع الأماميّة في الصفوف.
سال ماء المطر على رقبتي. رفعت ياقة سترتي , التصقت ببشرتي. لاحت من بعيد زرقة بزّات نظاميّة تمشي في رواق علويّ على يمين الطّابور. المكان مصنع قديم لقنوات الأسبستوس. حيطان جرباء رمادية, تلمع تحت زخّات المطر. قناطر من الحديد كانت تربط المباني و قد نخرها السّوس. وعلى يمين المربّعات الأسمنتيّة حيث كنّا رابضين, ارتفعت أعشاب الخيميّات و الأسليخ.
كان الصفّ يتقدّم ببطء كبير. كلّ خطوة تعقبها وقفة لا تنتهي., تعوّدت أرجلي على ذلك لكثرة ما يستوقفونني لمراقبة هويّتي.
من حين إلى آخر يخرج أحدنا من موقعه متّجها نحو فتحة في الجدار الأيسر, يبدو أنّها تفضي إلى دورة المياه. يرجع و هو يتمّ قفل أزرار سرواله تحت مراقبة مائتي زوج من الأعين.
ثم يخرج واحد آخر فتشيّعه النظرات إلى الفتحة و ترجع معه بعد بضع دقائق. كنت شارد البال متأمّلا أشكالا هندسيّة معدنيّة غطّت أعلى نوافذ مخازن تحتلّ أسفل المباني, و إذا بصراخ ينبعث من وسط الصفّ.
امرأة تولول بأعلى صوتها, كومة من اللحم ,قصيرة القامة التصقت ثيابها بتضاريس جسمها المكوّر بفعل المطر.
_ ارجع مكانك و إلا... أنا هنا منذ تسعة أيّام...لن تمرّ حتّى ولو قبل الآخرون...يجب أوّلا أن تعبر فوق جسمي...
رأيت الحرّاس ينقضّون على كهل أسمر, عالي الوجنتين, عريض الجبين. جرّوه وسط برك الماء ثمّ لطخوه ورائي بعد ما أشبعوه ركلا. سرت في الطابور همهمة و صاح أحدهم في المقدّمة: " ارفعوا أيديكم يا أوغاد "
ركض الحرّاس نحو الصوت. أرعدوا, هدّدوا, حاولوا إقناع البعض بالوشاية لكن دون جدوى.
رجعوا نحونا فوجدوا الرجل قد استوي. أخذوا استدعاءه. استعمل أحدهم جهاز الاتصالات :
_ القرش المركزي...القرش المركزي... من قرش سبعة... أنا قادم للمكتب الثاني...أبعثوا من يعوّضني...
مسح الكهل الأسمر جبينه بكمّه سوّى نظّارته ثمّ مدّ لي يده و قال مبتسما:
_ اسمي محمد الصالح... التمّامي...مدرّس و شاعر في أوقات الفراغ... يعني أربعا وعشرين ساعة في اليوم.
صحيح أنّني قرّرت عدم الكلام في الصفّ خشية المخبرين. ها هو يرغمني علي الإجابة:
_ الحراسة تحوّل من يمتهنها إلى وحش ضار.
أعاد مسح جبينه. مرّر أصابعه الرّقيقة على مقلته اليمنى لمسح الماء الملتصق بجفونه. و خاطبني:
_ ماذا كتب في استدعائك...
_ ...ساعة الحضور الثامنة و الربع...والمكان...الرصيف رقم خمسة قبالة المخازن.
_ كلّنا في نفس القارب...عتمة و ضباب...حاولت منذ ساعة معرفة سبب الاستدعاء من أحد الحرّاس و لكن دون جدوى...سمعتهم يتجادلون...النيل من المكاسب...هدم القيم...حملات...لم أفهم...
بدأ صوته يرتفع و خفت أن يواصل على تلك الوتيرة, لكنّه صمت. أحسست بأرجلي تتجمّد, فركت أصابعي عدّة مرّات, الوقت يمرّ والمطر ينهمر و الطابور يزحف ينهشنا ببطء و لا ينتهي. جذب الشّاعر من جيبه قطعة من الشوكلاطة, قسمها و ناولني جزءا.
فجأة, وقعت جلبة في وسط الطّابور و إذا بالمصطفين يتحلّقون. جرى الحرّاس نحوهم. صاحوا:
_ الكلّ في مكانه...
رأيناهم يضغطون على صدره و ينفخون في فمه. ثمّ نزل من الرواق العلويّ صاحب بزّة نظاميّة. وقف أمام الجسد الملقى وسط بركة الماء. سمعت أحدهم يقول أنّه مسؤول عن المركز و يسمّى الحاج مفتاح.
.
لمس رأس الميّت بخيزران, ثمّ لطم جزمته في حركة متقطّعة. رجّ الرعد المكان بفرقعة كأنّها قرقعة طبل.
سمعت من كان يسبقني في الصفّ يقول هازئا إن الرّجل الملقى على الأرض واحد آخر أصبح معفى من الوقوف في الطوابير و دفع فواتير الماء و الكهرباء و الغاز و الهاتف و ركوب الحافلة رقم 731 و خلاص الأداء على القيمة المضافة و معاليم التطهير و عدّادات وقوف السيّارات. وصلت نقّالة يجرّها عجوز يلبس زيّا برتقاليّا يحمل رقما على الظهر. رفع الجسد و رمي كالكيس .ثمّ رجع ركب النقّالة من حيث أتى.
نظر لي المدرّس الشّاعر, قطب جبينيه و همس في صوت خفيض:
_ يبدو أنّهم وجدوا الطريقة المثلى للتخلّص من الزائدين على النّصاب. أصبحنا مجرّد أرقام على شاشة الحاسوب. تراقب هويّتنا في الطّريق العام أو نستدعى للطابور كلّما استوجب ذلك.
في السّاعة السّادسة مساء أشعلوا الأنوار الكاشفة . زادت حدّة تساقط المطر و نفذ الماء إلى كامل جسمي. اشتكى أحد الواقفين من آلام في قصبات رئتيه و حاول مغادرة المكان إلا أنّ الحرّاس دفعوه بقوّة و أرجعوه, عقابا له, في آخر الصفّ.
تقدّمت رويدا رويدا إلى أن وصلت حوالي العاشرة و ثلاث دقائق أمام غرفة كتب في الجزء الأعلى من بابها بالأسود " الفيلق 5 ". أدخلت ثمّ أمرت أن أنتحي ركنا بعيدا. في صدر الغرفة طاولة جلس خلفها رجلان كان أحدهما يمسك دفترا و الأخر يكتب على حاسوب. تفحّصاني مليّا, أخذا منّي استدعائي. رسم صاحب الدفتر علامة في مربّع في الصفحة الخلفيّة من الاستدعاء و قالا لي بصوت واحد:
_ أنهينا العدّ منذ ثلاث دقائق, ارجع غدا على الساعة الثامنة و الربع, في نفس المكان... الرصيف رقم خمسة.
جانفي 2008
merci de retourner à tes premières amours
ça faisait longtemps
j'attends les prochaines.
la communauté mannanyènne te passe le bonjour et te soutient dans ta nouvelle carrière internationale.
اين تقع احداث الأقصوصة
لماذا لا تقول ذلك
أحمد تشوق كثيرا لمعرفة مكان الأحداث و لم يقدر على
الصبر كما يقال
ربي يوفق يا سـ...ـــ
في تلك الاقبية التي تنبعث منها رائحة كريهة .. هي رائحة الرطوبة الممزوجة بانعدام الشرف