الثلاثاء، 3 يونيو 2008



لم أذهب لحيّ جدّي منذ مدّة. أنا لم أعد أقطن المدينة العتيقة. جدّي وجدّتي من أمّي ماتا من عشرة سنوات.

أتذكّر جيّدا المرّات الأخيرة التي زرت فيها ذاك المنزل.

هو بيت صغير تحذوه من الجهة اليمنى دار خربة و حائط أجرب( حائط "شاهق" كنت أتسلّقه بصعوبة عندما كنت طفلا. وهو في الحقيقة لا يفوت المتر و النصف). خلف الحائط وسط الخربة شجرة تين فارعة تصل أغصانها العلويّة إلى سطح منزل جدّي, تحيط بها غرف دار قديمة سقطت جلّ سقوفها. كنت في العطل المدرسيّة أذهب يوميّا إلى الحيّ. أمرّ, و أنا قادم من حيّنا, من أنهج و أزقّة أبهرتني أسمائها فصرت أدوّنها في كنّش يوم تعلّمت الكتابة:

"السيّدة عجولة", "عنق الجمل", "باب المنارة", "القلشاني", "الأندلس", "الغني", "الجبح", "القصر", "الكنز", "الحكّام"...و "صباط الظلام" ذاك الممرّ المقبّب الذي كنت أعبره جريا من شدّة الخوف, بعد ما أعلمني بعض الأطفال أنّ عديد الرّجال قتلوا فيه قبل سنة.

داخل الخربة ارتفعت طفيليات الخيميّات و الصّناب و أزهر سنديان الأرض بين شقوق الحيطان.

كانت جدّتي تمنعني, كل ّ ما أمكن لها ذلك, من ولوج تلك الدار خوفا عليّ من الحشرات السّامة.

في أوّل الصّيف أتسلّل إلى شجرة التين من جهة سطح المنزل و لا أرجع إلا بعد أن أملأ سلّتي و بعد أن يلهب النسغ كامل أطرافي.

الصّعود للسطح يقع من خلال سلّم خشبيّ مترهّل منتصب في المطبخ. كان جدّي لا يسمح إلا نادرا بالصعود إلى السطوح. فهمت السّبب يوم تلصّصت على منزل جاره من جهة زقاق "الإكليل". في وسط الدّار جلس العمّ إبراهيم, و بجانبه أبنائه . كان يقصّ أوراقا صفراء بشفرة نصف دائريّة على لوحة مستطيلة. ثم يعبّأ غليونا في حجم الإبهام ذو قصبة طويلة , يسفط منه نفسا, ثم يمرّر الغليون لمن بجانبه.

العم إبراهيم لا يحبّ الكنية الملتصقة باسمه: "فمتلله". هي جملة " هل فهمت أم لا" يعجنها ثمّ تتناثر حروفها, يرفق بها كلّ كلامه لتأكيد ما يقوله.

له بالحيّ دكّان يبيع فيه كلّ ما يحتاجه النّاس لإقامة مراسم الدفن من أقمشة قطنيّة بيضاء و أوان و فوطات و مراهم و عطور وبخور و قباقب و سطول. كان جدّي كثير المزاح معه في موضوع الموتى و لا يفوّت فرصة إلا و يسأله , متماسكا عن الضّحك:

- ما حال التّجارة اليوم يا حاج "فمتلله"...

قبالة دكّانه منزل من أفخم ما في الحيّ, على ملك مدرّس سابق فقد الذّاكرة. كان في خصام مستمرّ مع العم ابراهيم بسبب عشرات القطط التي كانت تتجمّع صباحا أمام منزله لأخذ نصيبها من حوت السردين الذي كان يلقيه على قارعة الطّريق. كان المدرّس, بالرغم من خرفه, يحضى باحترام جلّ نسوة الحيّ, حبيسات المنازل العالية الجدران, لأنّه بعث بناته الأربعة للمدرسة, أصبحت إحداهن طبيبة .

علّمني أبناء خالي التنقّل بين سطوح المنازل. نجري في وضع انحناء لكي لا يلمحنا أحد. عندما نصل إلى مشارف "سوق السرّاجين", نستعمل عامود الكهرباء للنزول.

يتوسّط السّوق تابوت خشبيّ ملوّن يدّعي البعض أنّ من بداخله قاوم الأسبان عند غزوهم البلاد, و يقول غيرهم أنّ كلّ ذلك ترّهات . كانت أرجاء ذلك السّوق تعبق برائحة الجلد الجديد و التبن المستعمل لحشو البرادع و السّروج و رحل الدّواب.

في الحيّ عجوز يسمّى "مايكل" من جزيرة مالطة يقطن مخزنا في آخر الشّارع. أحمر الوجه لحيته بيضاء كثة يمشي متقوّسا, لطيف , قليل الكلام. مخزنه مغارة دمساء الظلمة حاولت عديد المرّات أن أتثبّت ما بداخلها عندما يكون الباب منفرجا. يقول صبية الحيّ أنّ "مايكل" يبيع الخمر خلسة. أصبح المخزن اليوم مغازتين فسيحتين, كثيرة الأضواء, إحداهما تبيع كلّ مستلزمات الإعلامية, و الأخرى فاضت بضائعها الصينيّة حتّى الشارع.

فوق المخزن طابق علوي يسكنه عبد الملك, الذي يبدو أكبر من سنّه, ضابط سابق في الشرطة الفرنسيّة صار بعد استقلال البلاد من أكابر تجّار الملابس المستعملة "الفريب"(1).

جدّي محمّد رجل نحيل البنية, أبيض الوجه, ضيّق العينين, ضحوك. لم أره يوما يخاصم أحدا. اندهشت لمّا سمعته يتحدّث باللغة الايطاليّة مع "مايكل". يعمل في صناعة القبّعات الصّوفيّة "الشّاشيّة", تصفف في باحة داره أكياسها . تزوّده بها امرأة من مدينة "اريانه" مرّة كلّ أسبوع.

كنت شديد الإعجاب بتلك المرأة. ترفع الأكياس بخفّة, تعدّها ثم تلصق عليها أرقاما من المعدن المحفور و تمرّر الحبر الأسود فوقها بلفيفة قطنيّة.

في يوم من الأيّام فتحت احد الأكياس فوجدت أشكالا نصف دائريّة من الصّوف المسرودة يبعثها جدّي من بعد إلى مصنع يقع على ضفاف نهر "مجرده" حيث تدعك القطعة إلى أن تنكمش ويتقلّص حجمها. ثمّ تطرح القبّعات أرضا تتماوج حمرتها من الفاتح إلى الدّاكن, تحمل بعضها في أعلاها بلّوطة صغيرة, و في داخلها علامة بالخيط الأسود لا يعرف سرّها إلا جدّي. تجده ,عندما ترجع الشاشيّة مصبوغة, يعدّها و يفرزها حسب علامة صانعها. تقترب منه لإعلامه بشيء ما, يتفحّصك بعينيه الصّغيرتين, يتوقّف عن العدّ ثم يعيد بصوت رتيب:

أربع و خمسون... أربع و خمسون...

تكلّمه مرّة آخري فيعيد العدد... أربع و خمسون, أربع و خمسون... يومي برأسه في حركة يعني بها:

- ماذا تريد؟

ثم يكرّر جملته إلى أن تفصح السّبب الذي أتيت من أجله و تبتعد فيرجع إلى فرزه :...خمس

و خمسون...ست و خمسون..

كنت استغرب من كثرة النّاس الذين كانوا يعرفونه. كان شديد الحرص على أن أسلم باليد

على كلّ واحد يتوقف معه في الشارع. من بين كلّ أولائك "البهجه".

"البهجه" امرأة في منتصف العمر فارعة الطول ,جميلة العينين, غنجاء الصوت

و الحركات. عندما تعترضه, تنحني , و تقبّل كتفه الأيمن. "البهجه" من النسوة القلائل في الحيّ

اللاتي ترتدين الملابس الإفرنجية. كانت تقطن بمفردها منزلا قرب مسجد الحيّ. علمت بعد سنين طويلة أنّها كانت تمتهن الرقص.

ينتصب اجتماع مرّة في الأسبوع., عادة يوم الأحد صباحا, في مقهى الحي "مقهى الديوان". اطراح لا تنتهي من لعب ورق "الربّي" و "الشكبّه". اكتشفت آنذاك أنّ الكهول, و من جملتهم خالي, حالهم حال المراهقين, يتفوّهون بالكلام النابي عندما يحمى وطيس المنازلات.

كان خالي هذا, أيّامها, رجلا مغرما بالألبسة الجديدة و الأناقة. كنت مبهرا بطريقة ليّه طرف شعره في شكل موزة و تجاسره على انتعال أحذية تكون من اللونين, الأبيض و الأسود.

أتوقّف اليوم عند دكّان الخضر و الغلال. يقابلني رجل في سنّي, أصهب, يرتفع شعره كألسنة لهب في حمرة تميل إلى اللون البرتقالي. هو نسخة من أبيه في قامته, بياض بشرته, شعره...

تقدّم خارج الدكّان حاملا صندوقين من التفّاح, رصّفهما في أعلى هيكل حديديّ منصوب في باب الدكّان. أمالهما ثمّ ثبّت مربّعا من الكرتون رسم عليه السعر. استدار, نظر إلي و قهقه:

- أنت حفيد الحاج محمّد...

أجبته بدون تردّد:

- و أنت عماد...ابن "العم" علي النفطي...كنّا نناديك "الرّوج"(2) لمّا كنت صغيرا...

كان "العم" علي النفطي أيّام الاستعمار الفرنسي , حسب ما رواه لي جدّي , عاملا بمناجم الفسفاط و مناضلا شيوعيّا. سافر إلى فلسطين سنة ثمانية و أربعين و رجع منها بعد ما فقد يده اليمنى في معارك حيفا.

سحب عماد صندوقا من البلاستيك, نصبه في مدخل الدكّان, وضع ورقة من الكرتون فوقه

ثمّ دعاني للجلوس.

كانت الساعة قد جاوزت الرابعة بعد الظهر. رنّ هاتفي النقّال ثم سمعت مخاطبي يقول بصوت

تخاله قادما من قاع بئر و دون التسليم:

- ها أنا قد وصلت... أين أنت واقف؟...

لم أفهم من أوّل وهلة...فأضاف:

- أنا فوزي... فوزي المندري صاحب مقهى "المستقبل" الذي كلّمك بالأمس في موضوع منزلكم المعروض للبيع...

فيفري
2008

(1) : "الفريب" من الفرنسية و تعني ملابس مستعملة

(2) : "الروج" من الفرنسية و تعني الأحمر




تعليق غير معرف

j'aime beaucoup ton recit, ta nostalgie ! parfois, je me demande pourquoi ne trouve -t-on pas ce genre de textes, de chroniques dans les livres scolaires ?



تعليق غير معرف

جميلة جدا هذه القصّة
متى تنشر مجموعتك الجديدة؟



تعليق غير معرف

voici un site où vous trouverez un billet (chadharat)qui parle du parfum de la medina . http/www.aissa-baccouche.com/3itr.pdf



تعليق غير معرف

Bonjour !

Donc , Quoi Dire ! Tu oeux faire encore mieux , mille fois mieux ! les passges brusque font perdre.

Un trés bon texte, il faut uniquement le récire plus calmement! les scénes défillent vite! alors que tu coupe ( plan de coupe) brusquement et quelques fois pas a la bonne place !



hhhh
kacem